الحلقةالسادسةعشر
لقد قضيت خمسة أيام في بيت عائلتي ، كان يمكن أن تكون من أجمل أيام حياتي ... لكنها كانت من أسوأها
كنت أود الرحيل عنهم في أقرب فرصة ، لكنني اضطررت كارها للبقاء بإلحاح من أبي و أمي
سامر غادر يوم الجمعة ، و قد ودعته وداعا باردا ... و غادرت أنا صباح الثلاثاء التالي باكرا .
خلال تلك الأيام الخمسة ...
كنت أتحاشى الالتقاء برغد قدر الإمكان و لا أنظر أو أتحدث إليها إلا للضرورة
و هي الأخرى ، كانت تلازم غرفتها معظم الوقت و تتحاشى الحديث معي ، خصوصا بعد أن قلت لها :
" هل تسرقين ؟ "
اعترف بأنني كنت فظا جدا ألا أنني لم أجد طريقة أفضل لأعبر بها عن غضبي الشديد و مرارتي لفقدها
في آخر الأيام ، طلبت مني والدتي اصطحاب رغد إلى المكتبة لتشتري بعض حاجياتها .
لم أكن لأفعل ذلك ، غير أنني شعرت بالحرج ... إذ أن والدي كان قد عاد قبل قليل من العمل و يسترخي ... فيما أنا أنعم بالراحة و الكسل ، دون مقابل ...
و ربما كان ذلك ، نوعا من الإعتذار ...
في ذلك اليوم كان نوار في زيارة مطولة لشقيقتي ، و مدعو للعشاء معها !
ذهبنا أنا و رغد إلى تلك المكتبة العظمى المترامية الأطراف ...
رغد توجهت إلى الزاوية الخاصة ببيع أدوات الرسم و التلوين و خلافها ... و بدأت تتفرج و تختار ما تريد ...
و على فكرة ، علمت أنها رسامة ماهرة ...
لكم كانت تعشق التلوين منذ الصغر !
أخذت أتفرج معها على حاجيات الرسم و التلوين ... ثم انعطفت في طريقي ، مواصلا التفرج ... و لم يعد باستطاعتي رؤية رغد أو باستطاعتها رؤيتي
شغلت بمشاهدة بعض الرسوم المعلقة أعلى الحائط و ما هي إلا ثوان حتى رأيت رغد تقف بجواري !
قلت :
" رسوم جميلة ! "
" نعم . سأشتري الألوان من هناك "
و أشارت إلى الناحية الأخرى التي قدمنا منها ... فعدت معها ...
انهمكت هي باختيار الألوان و غيرها ، فسرت أتجول و أتفرج على ما حولي حتى بلغت زاوية أخرى فانعطفت ...
مضت ثوان معدودة ، و إذا بي أسمع صوت رغد يناديني مجددا ...
استدرت للخلف فرأيتها تقف قربي !
و بيني و بينها مسافة بضع خطوات
تخيلت أنها تريد قول شيء ، فسألتها :
" هل انتهيت ؟؟ "
قالت :
" لا "
تعجبت !
قلت :
" إذن ؟؟ "
قالت :
" لا تبتعد عني "
يا لهذه الفتاة !
قلت :
" حسنا ! "
و مضيت ُ معها إلى حيث كانت أغراضها موضوعة على أحد الأرفف
رأيتها تأخذ أغراضا أخرى كثيرة ، فتلفت من حولي بحثا عن سلة تسوق ، و لم أجد . ذهبت لأبحث عن سلة فإذا بي أسمعها تناديني :
" وليد "
قلت :
" سأحضر سلة لحمل الأغراض "
فإذا بها تترك ما بيدها و تأتي معي !
عدنا مجددا للأغراض ، و تابعت هي اختيار ما تشاء، و تجولت أنا حتى بلغت ناحية الكتب ...
الكثير من الكتب أمام عيني !
يا له من بحر كبير ! كم أنا مشتاق للغطس في أعماقه !
لم أكن قد قرأت ُ كتابا منذ مدة طويلة ... أخذت أتفرج عليها و أتصفح بعضها ... و انتقل من رف إلى آخر ، و من مجموعة إلى أخرى ... حتى غرقت في البحر حقا !
كانت أرفف الكتب مصفوفة على شكل عدة حواجز تقسم المنطقة ...
و الكثير من الناس ينتشرون في المكان و يتفرجون هنا أو هناك ...
دقائق ، و إذا بي أسمع صوت رغد من مكان ما !
كان صوتها يبدو مرتبكا أو قلقا ... لم أكن في موقع يسمح لي برؤيتها ... فسرت بين الحواجز بحثا عنها و أنا أقول :
" أنا هنا "
و لم أسمع لها صوتا !
أخذت ُ ألقي نظرة بين الحواجز بحثا عنها
ثم وجدتها بين حاجزين ...
" أنا هنا ! "
حينما رأتني رغد أقبلت نحوي مسرعة تاركة السلة التي كانت تحملها تقع على الأرض و حين صارت أمامي مباشرة فوجئت بها تمسك بذراعي و ترتجف !
كانت فزعة !!
وقفت أمامي ترتعش كعصفور مذعور !
نظرت إليها بذهول ... قلت :
" ما بك ؟؟ "
قالت و هي بالكاد تلتقط بعض أنفاسها :
" أين ذهبت ؟ "
أجبت :
" أنا هنا أتفرج على الكتب ! ... ما بك ؟؟ "
رغد ضغطت على ذراعي بقوة ... و قالت بفزع :
" لا تتركني وحدي "
نظرت ُ إليها بشيء من الخوف ، و القلق ... و الحيرة ...
فقالت :
" لا تدعني وحدي ... أنا أخاف "
لكم أن تتصوروا الذهول الذي علاني لدى سماعي لها تقول ذلك ... و رؤيتها ترتجف أمام عيني بذعر ...
لقد ذكرني هذا الموقف ، باليوم المشؤوم ...
قلت :
" أ أنت ِ ... بخير ؟؟ "
فعادت تقول :
" لا تتركني وحدي ... أرجوك ... "
لم يبدُ لي هذا تصرفا طبيعيا ... توترتُ خوفا و قلقا ... و تأملتها بحيرة ...
سرنا باتجاه السلة ، فأردت سحب ذراعي من بين يديها لحمل السلة و إعادة المحتويات إلى داخلها ... لكنها لم تطلقها بسهولة ...
و عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر ثم بدأت بالبكاء ...
لم يكن موقفا عاديا ، لذا فإن أول شيء سألت أمي عنه بعد عودتنا للبيت :
" ما الذي جعل رغد تفزع عندما تركتها في المكتبة و ابتعدت قليلا ؟؟ "
أمي نظرت إلي باهتمام ... ثم قالت :
" ماذا حدث ؟؟ "
" لا شيء ... ذهبت ألقي نظرة على الكتب و بعد دقائق وجدتها ترتجف ذعرا ! "
عبس وجه والدتي ، و قالت :
" و لماذا تتركها يا وليد ؟ قلت لك ... انتبه لها "
أثار كلام أمي جنوني ، فقلت :
" أمي ... ماذا هناك ؟؟ ما لأمر ؟؟ "
قالت أمي بمرارة :
" لديها رهبة مرضية من الغرباء ... تموت ذعرا إذا لم تجد أحدنا إلى جانبها ... إنها مريضة بذلك منذ سنين ... منذ رحيلك يا وليد ! "
لقد صدمت بالنبأ صدمة هزت كياني و وجداني ...
أخبرتني أمي بتفاصيل حدثت للصغيرة بعد غيابي ... و الحالة المرضية التي لازمتها فترة طويلة و الذعر الذي ينتابها كلما وجدت نفسها بين غرباء ...
لم يكن صعبا علي أن أربط بين الحادث المشؤوم و حالتها هذه
و كم تمنيت ...
كم تمنيت ...
لو أن عمّار يعود للحياة ... فأقتله ... ثم أقتله و أقتله ألف مرة ...
إنه يستحق أكثر من مجرد أن يقتل ....
قالت أمي :
" و عندما توالت الهجمات على المنطقة ، اشتد عليها الذعر و المرض ... و وجدنا أنفسنا مضطرين للرحيل مع من رحل عن المدينة ... لم يكن الرحيل سهلا ، لكن العودة كانت أصعب ... قضيت معها فترات متفرقة في المستشفى ... لم تكن تفارقني لحظة واحدة ! بمشقة قصوى ذهب والدك و شقيقك لزيارتك في العاصمة ، تاركين الطفلة المريضة و أختها في رعايتي في المستشفى ، إلا أنهما منعا من الزيارة و أبلغا أن الزيارة محظورة تماما على جميع المساجين ! "
و أمي تتحدث و أنا رأسي يدور ... و يدور و يدور ... حتى لف المجرة بأكملها
تساؤلات كان تملأ رأسي منذ سنين ، و جدت إجابة صاعقة عليها دفعة واحدة ...
أسندت رأسي إلى يدي ...
رأتني أمي أفعل ذلك فقالت :
" بني ... أ أنت بخير ؟؟ "
رفعت يدي عن رأسي و قلت :
" و لماذا ... لماذا زوجتموها لسامر و هي بذلك السن المبكر جدا ؟؟ "
قالت :
" لمن كنت تظننا سنسلم ابنتنا ؟؟ إنها تموت ذعرا لو ابتعدت عنا ... هل تتصور أنها تستطيع الخروج من هذا المنزل ؟؟ لا تخرج في مكان عام إلا بوجود أبيك أو سامر ... كانت ستتزوجه إن عاجلا أم آجلا ... فرفعنا الحرج عنهما لبقائهما في بيت واحد "
قلت :
" لكن يا أمي ... إنها ... إنها .... "
و لم تخرج الكلمة المعنية ...
أتممت :
" إنها صغيرة جدا ... ما كان يجب أن تقرروا شيئا كهذا ... "
و تابعت :
" كان يجب ... كان يجب ... إن ... "
و لم أتم ...